أعترف أني، طيلة أكثر من أربعين سنة من التعامل مع الصورة، شاهدت آلاف وآلاف الكيلومترات من الصور المتحركة السينمائية والتلفزية التونسية والعربية والغربية والهندية ومن أمريكا اللاتينية وغيرها، حتى الإسرائيلية وتحديدا الصهيونية منها وفي جميع أجناس الحكي من أفلام إلى مسلسلات إلى ومضات غنائية وإستشهارية... ولم اشعر ولو مرة واحدة حتى يومنا هذا بمثل الحيرة التي أطلت على ثورة وغضب دفينين مثلما حدث لي عند مشاهدة الومضة الغنائية (كليب) على "الفيسبوك" وعنوانها "بسي كوم. الحرب النفسية" مدتها أكثر من خمس دقائق وهي لأحد التونسيين المقيمين بفرنسا – على ما استنتجت من اللكنة ومرجعية الصور – وأسمه "حمسوفسكي حمزة" والأغنية من جنس الـ"راب" ومسجلة تحت خانة الـ"راب التونسي"...
"ما خفي هو أعظم"
الـ"راب" هي الأحرف الأولى للتعبير الأنقليزي "إيقاع وشعر" (ريتم أند بويتري)، ومنهم من يقول أن معناها "روك ضد الشرطة" (روك إغنست بوليس)، وهو نوع موسيقي وريث الـ"هيب هوب" ظهر في نهاية السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية إثر انتفاضة الشباب هناك... ومنها انتشر في العالم ووصل بالطبع لبلادنا، وإن متأخرا. حاليا الساحة منشغلة بأغاني "بلطي" و"ليمبرا" و"ماسكوت" و"نزار تيمام" وغيرهم مثل "أر2أم" الذي أدى الأغنية الشهيرة لفيلم "آخر فيلم" للنوري بوزيد... وإن كانت هذه الأسماء تعمل بالمكشوف وعلنا ومنها من أقام الحفلات العامة أو ساهم في بعض البرامج التلفزية ووضع موسيقى بعض الأفلام الطويلة ("الأمير" لمحمد الزرن) والقصيرة ("المشروع" لمحمد علي النهدي)، فإن هناك من الأسماء التي تعمل في الخفاء وتستغل الشبكة الاجتماعية الفيسبوك" للانتشار ومن بينها "محمد" هذا وعمره 23 سنة يقول في جدار موقعه أنه من "بلاد الأكتاف، تونس"... والأغنية من جانبها الإيقاعي لا تختلف عن بنات جنسها في 4/4 أو 2/2، أي الإيقاع العادي... إلا أن من جهة كلماتها، فهي ليست فقط من ماء النار بل تشعل النار في أمور هي أكبر من "مخ" حمزة هذا والتي عبر عنها بكلام لا يمكن أن نعتبره خطيرا، بل هو تحريض سلفي يخلط الأوراق ويلعب على عواطف الإنتماء ويستعمل كلمات لها وقع غير متوقع لأنها خارجة عن سياقها، وهنا بيت القصيد، فهي مولفة على صور هي في الحقيقة لا معنى لها وحدها أو هي تكتفي بالمعنى المضمن بها حتى توصلنا إلى السب والتشهير بالمخرج النوري بوزيد... إلا أن صاحبنا، في عملية تحويل وجهة الكلمات واستئصال معنى الصور، يحمل أغنيته شحنة من المتفجرات لا أراكم الله مكروها...
خلط الأوراق في "خردة" الأخلاق
الأغنية هي رؤية غريبة وفريدة للعالم العربي-الإسلامي اليوم الذي، بحسب المغني، هدف "مؤامرات" تحاك ضده من الغرب الاستعماري ولن يقدر على مقاومتها وفك الحصار من حوله لأنه يواجه حربا من نوع أخر تكاد تكون "أقوى وأخطر من الحرب الواقعية لأنها تزرع في عقول الجيل الصاعد حقائق مزيفة (,,,) وعلى العالم محاربة هذا النوع من الإرهاب". يقال هذا على صيغة الأخبار كما في بعض القنوات المعروفة بولائها للتيار السلفي... ثم تنطلق الموسيقى، فيقدم "حمسوفسكي" أغنيته بمزيج من العربية والفرنسية على صيغة "موزائيك" و"نسمة" أو الشارع التونسي، قائلا أنها قائمة على 4 نوتات أخلاقية ضد الحرب النفسية التي "تقلبلك مخك وهويتك تنسيك"... في الصورة أسماء عديدة لمحطات تلفزية وإذاعية فرنسية تليها رموز للسينما (كلاكيت) والجرائد ("لوموند" مطوية) والإنترنيت... ثم مؤتمرا صحفيا حيث التلفزة هي "السلاح الاساسي" ضد العالم العربي الإسلامي (هذي لعنة العصر، لعنة لا تكنولوجي)... ودون سابق إنذار يؤكد "حمسوفسكي" على أن وسائل الاتصال وخاصة التلفزة هي السبب في الاختلاط بين الجنسين، فيقدم صورا لشباب برنامج "ستار أكاديمي المغرب" لقناة "نسمة" وبها علم تونس وهو يقول "هاو أمة الإسلام فاش تتفرج" مضيفا أن "لوفاندريدي (الجمعة) مع الآذان، الناس تستنى البرايم/ماعادش تستنى صلاة الجمعة" ومن هنا ينط إلى فلسطين وغزة وموتى الغزو الإسرائيلي الغاشم قائلا أن الناس لا تفكر فيما حدث مع صورة لخارطة فلسطين حضراء (لون حماس)...
"روبافيكا" الـ"راب"
ويستمر "محمد" في إسهاله اللغوي جامعا بين الإختلاط والعراء معللا ذلك بهجرة الدين وبالتهافت على الأفلام حيث "الفسق" أصبح أمرا عاديا بحسب رأيه (يعطي صورا من أفلام مصرية من جيل أفلام المقاولات) وأن الشباب لم يعد يحفظ الآيات القرآنية بل "لي بارول متاع الغناية" وفي الصورة رجل وأمرأة في فراش... ومن الفراش يمر على ملعب لكرة القدم ليعود إلى السينما والبارابول... والكلمات تنساب كالرصاص المطلي جهلا وحقدا فيقدم صورة لهند صبري وكأنها فاسقة... ويعرض لمفهومه البسيط والماضوي للعام بقوله أن القنوات تقدم "الماركسيزم والكابيتاليزم وما تحكيش عالإسلام/هذاكا مالازموش يدخل في عقول الناس" (؟؟؟) وتأتي الخاتمة في موازنة حفظ القرأن الكريم واستعمال "السواك" لأنه "مطهرة للفم ومرضاة لله" (!!!)، في طلب النجدة من صلاح الدين والزبير بن العوام مع صورة لعائلة نووية يأتيها النور من التلفزة... لم ينس "حمسوفسكي" ان يتمنى امتلاك سلاحا (كان جات عتدي القدرة تعطيهم بالكلاشنكوف) ليقتل الجميع ثم يصب جام غضبه على الوري بوزيد " هاك الكـ... إلي عمل الميكينغ أوف" والذي بحث في فيلمه عن النهج السليم معتبرا "أن القرأن قديم ما عادش يواكب العصر" مع صور للطفي العبدلي وهو ينتقل من راقص إلى فنبلة متنقلة وخاتمة الفيلم معروفة وتتفرقع صورة العبدلي... شبه الأفكار هذه "شكشوكة" لا أول ولا آخر لها وكأننا أمام هلوسة مريض عصابي في روبافيكا الـ"راب" وأخلاقيات المحلات التجارية الكبرى... والخطر، كل الخطر، في تناول هذه المغنى على شبكة الفيسبوك وتكفير النوري بوزيد ولطفي العبلي ومعهم هند صبري وعديد الشباب الذي لا ناقة ولا جمل له في "حربه النفسية" المفتعلة... هو خطر الصورة التي تحمل (برفع التاء) أكثر من المفرقعات... سامح الله "حمسوفسكي" التونسي على ما نوى، فالصور فاضحة للنوايا... الإجرامية. وهذه لم تكن وليست ولن تكون من قيم الإسلام التونسي...